الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} عطف على جملة " والتي تخافون نشوزهن " [النساء: 34] وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان، ونحو ذلك من أسباب الشقاق، أي دون نشوز من المرأة. والمخاطب هنا وُلاَة الأمور لا محالة، وذلك يرجّح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها. والشِّقَاق مصدرٌ كَالمُشَاقّة، وهو مشتقّ من الشِّق بكسر الشين أي الناحية. لأنّ كلّ واحد يصير في ناحية، على طريقة التخييل، كما قالوا في اشتقاق العدوّ: إنّه مشتقّ من عدوة الوادي. وعندي أنّه مشتقّ من الشَّقّ بفتح الشين وهو الصدع والتفرّع، ومنه قولهم: شقّ عصا الطاعة، والخلاف شقاق. وتقدّم في سورة البقرة (137) عند قوله تعالى: {وإن تولوا فإنما هم في شقاق} وأضاف الشقاق إلى (بين). إمّا لإخراج لفظ (بين) عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان، أي شقاقَ تباعد، أي تجَاف، وإمّا على وجه التوسّع، كقوله بل مكر اليل وقول الشاعر: يا سارق الليلة أهلَ الدار *** ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير (في) يجعل هذا شاهداً له كقوله: {هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: 78]، والعرب يتوسّعون في هذا الظرف كثيراً، وفي القرآن من ذلك شيء كثير، ومنه قوله: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] في قراءة الرفع. وضمير {بينهما} عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 4]. والحكم بفتحتين الحاكم الذي يُرضى للحكومة بغير ولاية سابقة، وهو صفة مشبّهة مشتقّة من قولهم: حكّموه فحكُم، وهو اسم قديم في العربية، كانوا لا ينصبون القضاة، ولا يتحاكمون إلاّ إلى السيف، ولكنّهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكماً في بعض حوادثهم، وقد تحاكم عامر بن الطُّفيل وعلقمة بن عُلاَثَةَ لدى هَرِم بن سنان العبسي، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها: عَلْقَمَ ما أنتَ إلى عامر *** الناقضِ الأوتارِ والواتر وتحاكم أبناء نزار بن معدّ بن عدنان إلى الأفعى الجُرهمي، كما تقدّم في هذه السورة. والضميران في قوله: {من أهله} و{من أهلها} عائدان على مفهومين من الكلام: وهما الزوج والزوجة، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما، ومعلوم أنّه يشترط فيهما الصفات التي تخوّلهما الحكم في الخلاف بين الزوجين. قال ملك: إذا تعذّر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب، قال ابن الفرس: «فإذا بعث الحاكم أجنبيّين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النصّ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما». قلت: والوجه الأوّل أظهر. وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحبّ فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صحّ. والآية دالّة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاعَ المستمرّ المعبّر عنه بالشقاق، وظاهرها أنّ الباعث هو الحاكم ووليّ الأمر، لا الزوجان، لأنّ فعل {ابعثوا} مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين، فلو كانا معيّنين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى. وصريح الآية: أنّ المبعوثين حكمان لا وكيلان، وبذلك قال أيمّة العلماء من الصحابة والتابعين. وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب، وقاله ابن عباس، والنخعي، والشعبي، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق. وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي، ولا مقال للزوجين في ذلك لأنّ ذلك معنى التحكيم، نعم لا يَمنع هؤلاء من أن يوكّل الزوجان رجلين على النظر في شؤونهما، ولا من أن يحكّما حكمين على نحو تحكيم القاضي. وخالف في ذلك ربيعة فقال: لا يحكم إلاّ القاضي دون الزوجين، وفي كيفية حكمهما وشروطه تفصيل في كتب الفقه. وتأوّلت طائفة قليلة هذه الآية على أنّ المقصود بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما، كقطع النفقة عن المرأة مّدة حتّى يصلح حالها، وأنّه ليس للحكمين التطليق إلاّ برضا الزوجين، فيصيران وكيلين، وبذلك قال أبو حنيفة، وهو قولٌ للشافعي، فيريد أنّهما بمنزلة الوكيل الذي يقيمه القاضي عَن الغائب. وهذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره، فهو من التأويل. والباعث على تأويله عند أبي حنيفة: أنّ الأصل أنّ التطليق بيد الزوج، فلو رأى الحكمان التطليق عليه وهو كاره كان ذلك مخالفة لدليل الأصل فاقتضى تأويل معنى الحكمين، وهذا تأويل بعيد؛ لأنّ التطليق لا يَطَّرِد كونه بيد الزوج؛ فإنّ القاضي يطلّق عند وجود سبب يقتضيه. وقوله تعالى: {إن يريداً إصلاحاً} الظاهر أنّه عائد إلى الحكمين لأنّهما المسوق لهما الكلام، واقتصر على إرادة الإصلاح لأنّها التي يجب أن تكون المقصد لولاة الأمور والحكمين، فواجبُ الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظراً منبعثاً عن نية الإصلاح، فإن تيسّر الإصلاح فذلك وإلاّ صارا إلى التفريق، وقد وعدهما الله بأن يوفّق بينهما إذا نويا الإصلاح، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادفة الحقّ والواقععِ، فإنّ الاتّفاق أطمَن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف، وليس في الآية ما يدلّ على أنّ الله قصر الحَكَمين على إرادة الإصلاح حتّى يكون سنداً لتأويل أبي حنيفة أنّ الحكمين رسولان للإصلاح لا للتفريق، لأنّ الله تعالى ما زاد على أن أخبر بأنّ نية الإصلاح تكون سبباً في التوفيق بينهما في حكمهما، ولو فهم أحد غير هذا المعنى لكان متطوّحا عن مفاد التركيب. وقيل: الضمير عائد على الزوجين، وهذا تأويل مَن قالوا: إنّ الحكمين يبعثهما الزوجان وكيلين عنهما، أي إن يُرد الزوجان من بعث الحكمين إصلاح أمرهما يوفّق الله بينهما، بمعنى تيسير عَوْد معاشرتهما إلى أحسن حالها. وليس فيها على هذا التأويل أيضاً حجّة على قصر الحكمين على السعي في الجمع بين الزوجين دون التفريق: لأنّ الشرط لم يدلّ إلاّ على أنّ إرادة الزوجين الإصلاح تحقّقه، وإرادتهما الشقاق والشغب تزيدهما، وأين هذا من تعيين خطّة الحكمين في نظر الشرع. وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدممِ الإشراك على وجه الإدماج، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقوله: {اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء: 1]. والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة. والخطاب للمؤمنين، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله، والاستزادة منها، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية. ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر؛ إذ مفاده: اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي، كأنّه قيل: لا تعبدوا إلاّ الله. والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي: تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتتِ نُفُوسُنا *** وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً} [البقرة: 83] الآية، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله، لأنّهم قالوا لموسى: «اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة» ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله. وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب، فتزهق نفوسهم بالسيوف، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها. و {شيئاً} منصوب على المفعولية ل (تُشركوا) أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقوله: {ولن نشرك بربنا أحداً} [الجن: 2] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقوله: {فلن يضروك شيئاً} [المائدة: 42]. وقوله: {وبالوالدين إحسانا} اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة، كقوله: {أن اشكر لى ولوالديك} [لقمان: 14]، وقوله: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه} [لقمان: 13، 14]، ولذا قدّم معمول (إحساناً) عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء، ووقع المصدر موقع الفعل. وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ. وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا. وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها، وهو معنى البرّ ولذلك جاء «وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن»؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى، تقول: أحْسَنَ إلى فلان، إذا وصله بمال ونحوه. {وذُو القربى} صاحب القرابة، والقربى فُعلى، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي، والمراد بها قرابة النسب، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي: وهو قولهم: ذو القربى، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل. وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم؛ قال ارطأة بن سهية: ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا *** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس، وهما أقارب وأصهار، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة. وكانوا يحسنون بالجار، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف. ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل إلى قوله: وذي القربى} [البقرة: 83] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره. وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه، وآمِن من غوائله، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ، وتَدينها الشدّة، لنفس لَئيمة، وكما ورد «شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه» فكذلك نقول: «شرّ الناس من عَظَّم أحداً لشرّه». وقوله: {واليتامى والمساكين} هذان صنفان ضعيفان عديما النصير، فلذلك أوصي بهما. والجار هو النزيل بقرب منزلك، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها، فالمراد ب {الجار ذي القربى} الجار النسيب من القبيلة، وب {الجار الجنب} الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة، فهو جُنُب، أي بعيد، مشتقّ من الجَانب، وهو وصف على وزن فُعُل، كقولهم: ناقة أجُد، وقيل: هو مصدر، ولذلك لم يُطابق موصوفه، قال بَلْعَاء بن قيس: لا يجتوينا مُجَاور أبداً *** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني، ليطلق له أخاه شَاسا، حين وقع في أسر الحارث: فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابَةٍ *** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار، والجُنُبُ بعيدها، وهذا بعيد، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار، وأقوالهم في ذلك كثيرة، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق، ومن ذلك الإحسان إلى الجار. وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة: ففي «البخاري» عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه ". وفيه عن أبي شريح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول: " والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ". قيل: «ومن يا رسول الله» قال: " من لا يأمن جارُه بوائقه " وفيه عن عائشة، قلت: «يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي» قال " إلى أقربهما منك بابا " وفي «صحيح مسلم»: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ " إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك ". واختلف في حدّ الجوار: فقال ابن شهاب، والأوزاعي: أربعون داراً من كلّ ناحية، وروي في ذلك حديث: وليس عن مالك في ذلك حدّ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس. وقوله: {والصاحب بالجنب} هو المصاحب الملازم للمكان، فمنه الضيف، ومنه الرفيق في السفر، وكلّ من هو مُلمّ بك لطلب أن تنفعه، وقيل: أراد الزوجة. {وابن السبيل} هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب. وكلمة (ابن) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص، كقولهم: أبو الليل، وقولهم في المثل: أبوها وكيَّالُها. والسبيل: الطريق السابلة، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائراً، أي مسافراً، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق، رمى به الطريق إليهم، فكأنّه وَلَدَه. والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة، قليل النصير، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه، وبلد غير بلده. وكذلك {ما ملكت أيمانكم} لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية. وجملة: {إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً} تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر. والاختيال: التكبّر، افتعال مشتقّ من الخُيَلاء، يقال: خالَ الرجلُ خَوْلا وخَالا. والفخور: الشديد الفخر بما فعل، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء، فهما ينافيان الإحسان المأمور به، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام. ومعنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء، فهو في معنى التحذير من بَقايا الأخلاق التي كانوا عليها.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدهّ وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح؛ فقوبل الخُلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحِزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذِكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فيكون قوله: {الذين يبخلون} مبتدأ، وحُذف خبره ودَلّ عليه قولُه: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً}. وقُصد العدول عن العطف: لتكون مستقلّة، ولما فيه من فائدة العموم، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين. فالتقدير: الذين يبخلون أعتدنا لهم عذاباً مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم، وتكون جملة: {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} معطوفة أيضاً على جملة {والذين يبخلون} محذوفة الخبر أيضاً، يدلّ عليه قوله: {ومن يكن الشيطان له قرينا} إلخ. والتقدير: والذين ينفقون أموالهم رثاء الناس قرينهم الشيطان. ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها. ويجوز أن يكون {الذين يبخلون} بدلاَ من (مَن) في قوله: {من كان مختالاً فخوراً} [النساء: 36] فيكون قوله: {والذين ينفقون أموالهم} معطوفاً على {الذين يبخلون}، وجملة {وأعتدنا} معترضة. وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر، وكذلك المنافقون. والبخل بضمّ الباء وسكون الخاء اسم مصدر بخل من باب فرح، ويقال البَخَل بفتح الباء والخاء وهو مصدره القياسي، قرأه الجمهور بضم الباء وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف بفتح الباء والخاء. والبخل: ضدّ الجود وقد مضى عند قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} في سورة آل عمران (180). ومعنى ويأمرون الناس بالبخل} يحضّون الناس عليه، وهذا أشدّ البخل، قال أبو تمّام: وإنّ امر أضنّت يداه على امرئ *** بنيل يَدٍ من غيره لبخيل والكتمان: الإخفاء. و{ما آتاهم الله من فضله} يحتمل أنّ المراد به المال، كقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 180]؛ فيكون المعنى: أنّهم يبخلون ويعتذرون بأنّهم لا يجدون ما ينفقون منه، ويحتمل أنّه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالذين يبخلون: المنافقين، وعلى الثاني يكون المراد بهم: اليهود؛ وهذا المأثور عن ابن عباس. ويجوز أن تكون في المنافقين، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} [المنافقون: 7]. وقوله: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً}، عَقِبَه، يؤذن بأنّ المراد أحد هذين الفريقين. وجملة: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} معترضة. وأصل و{أعتدنا} أعددنا، أبدلت الدال الأولى تاء، لثقل الدالين عند فكّ الإدغام باتّصال ضمير الرفع، وهكذا مادّة أعدّ في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأنّ الإدغام أخفّ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء، ومن ذلك قولهم: عَتاد لعُدّة السلاح، وأعْتُد جمع عتاد. ووصف العذاب بالمهين جزاء لهم على الاختيال والفخر. وعطف {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} على {الذين يبخلون}: لأنّهم أنفقوا إنفاقاً لا تحصل به فائدة الإنفاق غالباً، لأنّ من ينفق ماله رئاء لا يتوخّى به مواقع الحاجة، فقد يعطي الغنيّ ويمنع الفقير، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين، ولذلك وصفوا بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وقيل: أريد بهم المشركون من أهل مكة، وهو بعيد، لأنّ أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة. وجملة: {ومن يكن الشيطان له قرينا} معترضة. وقوله: {فساء قريناً} جواب الشرط. والضمير المُستتر في (ساء) إن كان عائداً إلى الشيطان ف (ساءَ) بمعنى بئس، والضمير فاعلها، و{قرينا} تمييز للضمير، مثل قوله تعالى: {ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 177]، أي: فساء قرينا له، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه، ويجوز أن تبقى (ساء) على أصلها ضَدّ حَسُن، وترفع ضميرا عائداً على (مَن) ويكون (قريناً) تمييز نسبة، كقولهم: «ساءَ سمعاً فَسَاء جَابَةً» أي فساءَ من كان الشيطان قرينَهُ من جهة القَرين، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قريناً بإثبات سوء قرينه؛ إذ المرء يعرف بقرينه، كما قال عديّ بن زيد: فَكُلّ قريننٍ بالمُقَارن يَقْتَدي *** وقوله: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر} عطف على الجملتين، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين، والمقصود استنزال طائرهم، وإقامة الحجّة عليهم. {وماذا} استفهام، وهو هنا إنكاري توبيخي. و(ذا) إشارة إلى (مَا)، والأصل لا يجيء بعد (ذا) اسم موصول نحو {من ذا الذي يشفع عنده} [البقرة: 255]. وكثر في كلام العرب حذفه وإبقاء صلته لكثرة الاستعمال، فقال النحاة: نابت {ذا} منابَ الموصول، فعدّوها في الموصولات وما هي منها في قبيل ولا دبير، ولكنّها مؤذنة بها في بعض المواضع. {وعلى} ظرف مستقِرّ هو صلة الموصول، فهو مؤوّل بكون. و{على} للاستعلاء المجازي بمعنى الكلفة والمشقّة، كقولهم: عَليك أن تفعل كذا. و{لو آمنوا} شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، وقد قدّم دليل الجواب اهتماماً بالاستفهام، كقول قَتيلة بنت الحارث: مَا كانَ ضَرَّك لو مَننت وربما *** منَّ الفتى وهو المَغيظ المُحْنَقُ ومن هذا الاستعمال تَوَلَّدَ معنى المصدرية في لو الشرطية، فأثبته بعض النحاة في معاني لو، وليس بمعنى لو في التحقيق، ولكنه ينشأ من الاستعمال. وتقدير الكلام: لو آمنوا ماذا الذي كان يتعبهم ويثقلهم، أي لكان خفيفاً عليهم ونافعاً لهم، وهذا من الجدل بإراءة الحالة المتروكة أنفعَ ومحمودةً. ثم إذا ظهر أنّ التفريط في أخفّ الحالين وأسدّهما أمر نكر، ظهر أنّ المفرّط في ذلك مَلوم، إذ لم يأخذ لنفسه بأرشد الخَلَّتين، فالكلام مستعمل في التوبيخ استعمالا كنائيا بواسطتين. والملام متوجّه للفريقين: الذين يبخلون؛ والذين ينفقون رئاء، لقوله: {لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله} على عكس ترتيب الكلام السابق. وجملة: {وكان الله بهم عليماً} معترضة في آخر الكلام، وهي تعريض بالتهديد والجزاء على سوء أعمالهم.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} استئناف بعد أن وصف حالهم، وأقام الحجّة عليهم، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل، بله الظلم الشديد، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب، وأنّه في حقّهم عدل، لأنّهم استحقّوه بكفرهم، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضاً مقابلته بقوله: {وإن تك حسنة} ولمّا كان المنفي الظلم، على أنّ (مثقال ذرّة) تقدير لأقلّ ظلم، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته. وانتصب {مثقال ذرة} بالنيابة عن المفعول المطلق، أي لا يظلم ظُلما مقدّراً بمثقال ذرّة، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة، والمراد به المقدار. والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدُر به، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى. وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {حسنة} بالرفع على أنّ (تك) مضارع كان التامّة، أي إن تُوجَدْ حسنةٌ. وقرأه الجمهور بنصب {حسنة} على الخبرية ل {تَكُ} على اعتبار كان ناقصة، واسم كان المُسْتتر عائد إلى مثقال ذرّة، وجيء بفعل الكون بصيغة فِعل المؤنث مراعاةً لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقالُ، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلاّ لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه. والمضاعفة إضافة الضّعف بكسر الصاد أي المِثْل، يقال: ضاعف وضَعَّف وأضْعَفَ، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أيمّة اللغة، مثل أبي علي الفارسي. وقال أبو عُبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضِعْففٍ واحد وضعّف يقتضي ضعفين. وردّ بقوله تعالى: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة. وقرأ الجمهور: {يضاعفها}، وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر: {يُضَعِّفها} بدون ألف بعد العين وبتشديد العين. والأجر العظيم ما يزاد على الضعف، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة، فقال: {من لدنه} إضافة تشريف. وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة.
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قوله: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} [النساء: 37] وقوله: {فساء قربناً} [النساء: 38]؛ وعن التوبيخ في قوله: {وماذا عليهم} [النساء: 39] وعن الوعد في قوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] الآية، والتقدير: إذا أيقنت بذلك فكيفَ حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجَب الشهادة على العمل الصالِح وعلى العمل السيّئ، وعلى هذا فليس ضميرُ (بكَ) إضماراً في مقام الإظهار، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40]، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد؛ فالناسُ بين مستبشر ومتحسّر، وعلى هذا فضمير {بك} واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضَى هذا أن يكون الكلام مسوقاً لجميع الأمّة، فيقتضي أن يقال: وجئنا بالرَّسُول عليهم شهيداً، فعُدل إلى الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بعزّ الحُضور والإقبال عليه. والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو: كيف أولئك، أو كيف المَشْهَد، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلاّ يزيده حالُ ضدّه وضوحاً، فالناجي يزداد سروراً بمشاهدة حال ضدّه، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه مُتعلِّقه بعلَى أو اللام: ليعمّ الأمرين. والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى: {فكيف إذا جمعناهم} في سورة آل عمران (25). (وإذا) ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة {جئنا} أي زمان إتياننا بشهيد. ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثلُ آية سورة النحل (89) {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزَّمان بإضافته إلى تلك الجملة، والظرف معمول ل (كيف) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمْحان: وقبْل غدٍ يَا لهفَ قلبي من غَدٍ *** إذا رَاح أصحابي ولستُ برائح والمجروران في قوله: من كل أمة} وقوله: {بشهيد} يتعلّقان ب (جئنا). وقد تقدّم الكلام مختصراً على نظيره في قوله تعالى: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 25]. وشهيد كلّ أمّة هو رسولها، بقرينة قوله: {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}. و {هؤلاء} إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلتَه، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة (هؤلاء) مراداً بها المشركون، وهذا معنى ألهمنا إليه، استقريْناه فكان مطابقاً. ويجوز أن تكون الإشارة إلى {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} [النساء: 37] وهم المشركون والمنافقون، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين. ومن أضعف الاحتمالات أن يكون {هؤلاء} إشارة إلى الشهداء، الدالّ عليهم قوله: {كل أمةٍ بشهيد} وأن ورد في «الصحيح» حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه فَيشهد محمّد صلى الله عليه وسلم بصِدقه، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصودَ من هذه الآية. وذُكر متعلّق (شهيدا) الثاني مجروراً بعلى لتهديد الكافرين بأنّ الشهادة تكون عليهم، لأنّهم المقصود من اسم الإشارة. وفي «صحيح البخاري»: أنّ عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ عليّ القرآن، قلت: أقْرَأهُ عليك وعليكَ أنْزِل، قال: إني أحِبّ أنْ أسْمَعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء، حتّى إذا بلغتُ {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}، قال: {أمسِك} فإذا عينَاه تذرفان. وكما قلت: إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا: لا فِعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه دلالة على شعور مجتمععٍ فيه دلائلُ عظيمة: وهي المسرّة بتشريف الله إيّاه في ذلك المشهد العظيم، وتصديققِ المؤمنين إيّاه في التبليغ، ورؤيةِ الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته، والأسففِ على ما لحق بقية أمّته من العذاب على تكذيبه، ومشاهدةِ ندمهم على معصيته، والبكاء ترجمانُ رحمةٍ ومسرّة وأسف وبهجة. وقوله: {يومئذٍ يود الذين كفروا} الآية استئناف بياني، لأنّ السامع يَتساءل عن الحالة المبهمة المدلولة لقوله: {كيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} ويتطلّب بيانها، فجاءت هذه الجملة مبيّنة لبعض تلك الحالة العجيبة، وهو حال الذين كفروا حين يرون بوارق الشرّ: من شهادة شهداء الأمم على مؤمنهم وكافرهم، ويوقنون بأنّ المشهود عليهم بالكفر مأخوذون إلى العذاب، فينالهم من الخوف ما يودّون منه لو تَسَّوى بهم الأرض وجملة {لو تسوى بهم الأرض} بيان لجملة يودّ أي يودّون وُدَّا يبيّنه قوله: {لو تسوى بهم الأرض}، ولكون مضمونها أفاد معنى الشيء المودود صارت الجملة الشرطية بمنزلة مفعول (يودّ)، فصار فعلها بمنزلة المصدر، وصارت لو بمنزلة حرف المصدر، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} في سورة البقرة (96). وقوله: تسوى} قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد السين فهو مضارع تَسَوَّى الذي هو مطاوع سَوَّاه إذا جعله سَواءً لشيءٍ آخر؛ أي مماثلا، لأنّ السواء المثل فأدْغِمت إحدى التاءين في السين؛ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفتح التاء وتخفيف السين على معنى القرَاءة السابقة لكن بحذف إحدى التاءين للتخفيف؛ وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب {تسوى} بضمّ التاء وتخفيف السين مبنيّا للمجهول، أي تُمَاثَل. والمماثلة المستفادة من التسوية تحتمل أن تكون مماثلة في الذات، فيكون المعنى أنّهم يصيرون تُراباً مثل الأرض لظهور أن لا يقصد أن تصير الأرض ناسا، فيكون المعنى على هذا هو معنى قوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} [النبأ: 40]. وهذا تفسير الجمهور، وعلى هذا فالكلام إطناب، قصد من إطنابه سلوك طريقة الكناية عن صيرورتهم تراباً بالكناية المطلوب بها نِسبةٌ، كقولهم: المجدُ بين ثوبيْه، وقول زياد الأعجم: إنَّ السَّماحةَ والمُرُوءَة والنَّدى *** في قُبَّة ضُربت على ابن الحشرج أي أنّه سمح ذو مروءة كريم؛ ويحتمل أن تكون مماثلة في المقدار، فقيل: يودّون أنّهم لم يبعثوا وبَقُوا مستوين مع الأرض في بطنها، وقيل: يودّون أن يُدفنوا حينئذ كما كانوا قبل البعث. والأظهر عندي: أنّ المعنى التسويةُ في البروز والظهور، أي أن ترتفع الأرض فتُسَوَّى في الارتفاع بأجسادهم، فلا يظهروا، وذلك كناية عن شدّة خوفهم وذلّهم، فينقبضون ويتضاءلون حتّى يودّوا أن يصيروا غير ظَاهرين على الأرض، كما وَصف أحدُ الأعراب يهجو قوماً من طَيّءٍ أنشده المبرّد في الكامل: إذَا ما قيل أيُّهُمُ لأَي *** تَشَابَهَتْ المَنَاكِبُ والرُّؤُوسُ وهذا أحسن في معنى الآية وأنسب بالكناية. وجملة {ولا يكتمون الله حديثاً} يجوز أن تكون مستأنفة والواو عاطفة لها على جملة {يود}؛ ويجوز أن تكون حالية، أي يودّون لو تسوّى بهم الأرض في حال عدم كتمانهم، فكأنّهم لمّا رأوا استشهاد الرسل، ورأوا جزاء المشهود عليهم من الأمم السالفة، ورأوا عاقبة كذب المرسَل إليهم حتّى احتيج إلى إشهاد رسلهم، علموا أنّ النَّوبة مفضية إليهم، وخامرهم أن يكتموا الله أمْرَهم إذا سألَهم الله، ولم تساعدهم نفوسهم على الاعتراف بالصدق، لِمَا رأوا من عواقب ثبوت الكفر، من شدّة هلعهم، فوقعوا بين المقتضي والمانع، فتمنّوا أن يَخفَوْا ولا يظهروا حتّى لا يُسألوا فلا يضطرّوا إلى الاعتراف الموبِق ولا إلى الكتمان المهلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}. هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضاً. ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها، فوقعت في موقععِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات. تضمّنت حكماً أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء، وهو مقصود في ذاته أيضاً بحسب الغاية، وهو قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى، فبقيت على الإباحة الأصلية، وفي المسلمين من يشربها. ونزل قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين: نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا خمراً وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ: قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل، لأنّ (قَرُب) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال: قرب منه بضم الراء وقرِبه بكسر الراء وهما بمعنى، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة، ولا يصحّ. وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر، والتنفير منها، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيماناً وأعلقهم بالصلاة، فلا يرمُقون شيئاً يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار. ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى: {وصلوات ومساجد} [الحج: 40]، ونقل عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن قالوا: كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار. وقوله: {حتى تعلموا ما تقولون} غاية للنهي وإيماء إلى علّته، واكتفى بقوله (تقولون) عن {تفعلون} لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول. وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة. وسكارى جمع سكران، والسكران من أخَذ عقله في الانغلاق، مشتقّ من السَّكْر، وهو الغلق، ومنه سكْر الحوض وسكْر الباب {وسكرت أبصارنا} [الحجر: 15]. ولمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلاّ بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة. عطف على جملة {وأنتم سكارى} لأنّا في محلّ الحال، وهذا النصب بعد العطف دليل بيِّنٌ على أنّ جملة الحال معَتبرة في محلّ نصب. والجنُب فُعُل، قيل: مصدر، وقيل: وصف مثل أُجُد، وقد تقدّم الكلام فيه آنفاً عند قوله: {والجار الجنب} [النساء: 36]، والمراد به المباعد للعبادةِ من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل. ووصفُ جنُب وصفٌ بالمصدر فلذلك لم يجمع إذْ أخبر به عن جمع، مِن قوله: {وأنتم سكارى}. وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفاً عندهم، ولعلّه من بقايا الحنيفية، أو ممّا أخذوه عن اليهود، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في «الاصحاح» 15 من سفر اللاويين من التوراة. وذكر ابن إسحاق في «السيرة» أنّ أبا سفيان، لما رجع مهزوماً من بدر، حلف أن لا يمسّ رأسَه غسلٌ من جنابة حتّى يغزوَ محمّداً. ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة. والمعنى لا تُصَلُّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ. والمقصود من قوله: {ولا جنباً} التمهيد للتخلّص إلى شرع التَّيمّم، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل، فذكره هنا إدماج. والتيمّم شرع في غزوة المُرَيْسيع على الصحيح، وكانت سنة ستّ أو سنة خمسسٍ على الأصحّ. وظاهر حديث مالك عن عائشة أنّ الآية التي نزلت في غزوة المرَيْسيع هي آية التيمّم، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنّها لم يذكر منها إلاّ التيمّم. ووقع في حديث عمرو عن عائشة أنّ الآية التي نزلت هي قوله: {يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} التي في سورة المائدة (6)، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء، قال: لأنّ آية سورة المائدة تسمّى آية الوضوء. وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء. وقال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أيّ الآيتين عنت عائشة. وسورة المائدة قيل: نزلت قبل سورة النساء، وقيل بعدها، والخطب سهل، والأصحّ أنّ سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة. والاستثناء في قوله: إلا عابري سبيل} استثناء من عموم الأحوال المستفادِ من وقوع (جنبا)، وهو حال نكرة، في سياق النفي. وعابر السبيل، في كلام العرب: المسافر حين سيره في سفره، مشتقّ من العبر وهو القطع والاجتياز، يقال: عبر النهر وعبر الطريق. ومن العلماء من فسّر {عابري سبيل} بمارّين في طريق، وقال: المراد منه طريق المسجد، بناء على تفسير الصلاة في قوله: {لا تقربوا الصلاة} بالمسجد، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث، قاله الذين تأوّلوا الصلاة بالمسجد. ونسب أيضاً إلى أنس بن مالك، وأبي عبيدة، وابن المسّيب، والضحّاك، وعطاء، ومجاهد، ومسروق، والنخعي، وزيد بن أسْلم، وعمرو بن دينار، وعكرمة، وابن شهاب، وقتادة، قالوا: كان ذلك أيام كان لكثير من المهاجرين والأنصار أبواب دُور في المسجد، ثم نسخ ذلك بعدَ سدّ الأبواب كلّها إلاّ خوخة أبي بكر، فكان المرور كذلك رخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر، وفي رواية ولعلي، وقيل: أبقيت خوخة بنت عليّ في المسجد، ولم يصحّ. وفائدة هذا الاستثناء عند من فسّر {تقربوا الصلاة} بدخول المسجد، وفسّر {عابري سبيل} بالمارّين في المسجد ظاهرة، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل. وعابرُ السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق، وهو عند أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه، وأمّا عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة، للاستغناء عنه بقوله بعده {أو على سفر} ولأنّ في عموم الحصر تخصيصاً، فالذي يظهر لي أنّه إنّما قدّم هنا لأنّه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاءَ الماء. ولندور عروض المرض. والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أنْ يكون متّصلا عند من يرى المتيمّم جنباً، ويرى التيمّم غير رافع للحدث، ولكنّه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت، وهذا قول الشافعي، فهو عنده بدل ضروري يقدّر بقدر الضرورة، ودَليله ظاهر الاستثناء، ويحتمل أن يكون منقطعاً عند من يرى المتيمّم غير جنب، ويرى التيمّم رافعاً للحدث حتّى ينتقض بناقض ويزول سببه. وهذا قول أبي حنيفة، فلذلك إذا تيمّم الجنب وصلّى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضّأ لأنّ تيمّمه بدل عن الغسل مطلقاً، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنّة ما يقتضي خلافه. وعن مالك في ذلك قولان: فالمشهور من رواية ابن القاسم أنّ التيمّم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فلذلك لا يصلّي المتيمّم به إلاّ فرضاً واحداً، ولو تيمّم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمّم عن الوضوء. وعن مالك، في رواية البغداديين: أنّ المريض الذي لا يقدر على مسّ الماء يتيمّم ويصلّي أكثر من صلاة، حتّى ينتقض تيمّمه بناقض الوضوء، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصلّيها بتيمّم واحد، فعلى هذا ليس تجديد التيمّم لغيرهما إلاّ لأنَّه لا يدري لعلّه يجد الماء فكانت نيّة التيمّم غيرَ جازمة في بقائه، ولم ينقل عن مالك قول بأنّ المتيمّم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ. وفي مفهوم هذا الاستثناء، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور، على هذا المحمل تفصيل. فعابر السبيل مُطلق قيده قوله: {فلم تجوا ماء فتيمموا} وبقي عموم قوله {ولا جنباً} في غير عابر السبيل، لأنّ العامّ المخصوص يبقى عامّا فيما عدا ما خُصّص، فخَصَّصه الشرط تخصيصاً ثانياً في قوله: {وإن كنتم مرضى}. ثم إن كان قد تقرّر عند المسلمين أنّ الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله: {إلا عابري سبيل} مجملاً لأنّهم يترقّبون بيانَ الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر، فيكون في قوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} بيان لهذا الإجمال، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال، ويكون قوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} استئنافا لأحكام التيمّم. وتقديم المُستثنى في قوله: {إلا عابري سبيل} قبل تمام الكلام المقصود قصره بقوله: {حتى تغتسلوا} للاهتمام وهو جار على استعمال قليل، كقول موسى بن جابر الحنفي أموي: لاَ أشتهي يا قوم إلاَّ كارها *** بابَ الأمير ولا دفاع الحاجب وقوله: {حتى تَغْتَسِلُواْ} غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنباً، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له، لأنّ وجوب الصلاة لا يسقط بحال، فلمّا نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل. والحكمة في مشروعية الغسل النظافة، ونيطَ ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلّي في حالة كمال الجسد، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع. ومن أبدع الحِكم الشرعية أنّها لم تنط وجوب التنظّف بحال الوسخ لأنّ مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظف ممّا تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم، فنيطَ وجوب الغسل بحالة لا تنفكّ عن القوة البشرية في مدّة متعَارف أعمار البشر، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية، وحيث كان بَيْن تلك الحالة وبين شدّة القوّة تناسب تامّ، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها، وكان أيضاً بين شدّة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبّر عنها بالوسخ تناسبٌ تامّ، كان نوْط الاغتسال بالجنابة إناطة بوصف ظاهر منضبط فجُعل هو العلّة أو السبب، وكان مع ذلك محصّلا للمناسبة المقتضية للتشريع، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدارا يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطاً بأعظم عبادة وهي الصلاة، فصارت الطهارة عبادة كذلك، وكذلك القول في مشروعية الوضوء، على أنّ في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتورٌ باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم، حسبما تفطّن لذلك الأطباء فقُضيت بهذا الانضباط حِكَمٌ عظيمة. ودلّ إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله: {حتى تغتسلوا} على أنّ الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء، وهذا متّفق عليه، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن: فشرطه مالك رحمه الله بناء على أنّه المعروف من معنى الغسل في «لسان العرب»، ولأنّ الوضوء لا يجزئ بدون ذلك باتّفاق، فكذلك الغسل. وقال جمهور العلماء: يجزئ في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصبّ أو الانغماس؛ واحتجّوا بحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أفاض الماء على جسده، ولا حجّة فيه لأنّهما لم تذكرا أنّه لم يتدلّك، ولكنّهما سكتتا عنه، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنّه المتبادر، وهذا أيضاً رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج، ومروان بن محمد الطاطري، وهي ضعيفة. وقوله: {وإن كنتم مرضى} إلخ ذكرُ حالةِ الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة، وذُكر في سورة المائدة، وهي نازلة قبل هذه السورة. فالمقصود بيان حكم التيمّم بحذافره. وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود، وحصل أيضاً تخصيص لعموم قوله: {ولا جنباً} كما تقدّم. وقوله: {أو على سفر} بيان للإجمال الواقع في قوله: {إلا عابرب سبيل} إن كان فيه إجمال، وإلاّ فهو استئناف حكم جديد كما تقدّم. وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} زيادة على حكم التيمّم الواقع بدلا من الغسل، بذكر التيمّم الواقع بدلا عن الوضوء إيعاباً لنوعَي التيمّم. وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور. فالمريض أريد به الذي اختلّ نظام صحتِه بحيث صار الاغتسال يضرّه أو يزيد عِلَّتَه. {أو جاء... من الغائط} كناية عن قضاء الحاجة البشرية، شاع في كلامهم التكنّي بذلك لبشاعة الصريح. والغائط: المنخفض من الأرض، وما غاب عن البصر، يقال: غَاط في الأرض إذا غاب يغوط، فهمزته منقلبة عن الواو، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم، فيكنون عنه: يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوّط، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيراً حتّى ساوت الحقيقة فسمَجَت، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلّقونه بأفعال تناسب ذلك. وقوله: {أو لامستم النساء} قرئ (لامستم) بصيغة المفاعلة، وقرئ (لمستم) بصيغة الفعل كما سيأتي، وهما بمعنى واحد على التحقيق. ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل. وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد، وقد أطلق مجازاً وكناية على الافتقاد، قال تعالى: {وأنا لمسنا السماء} [الجن: 8] وعلى النزول، قال النابغة: ليَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المحارب *** وعلى قربان النساء، لأنّه مرادف المسّ، ومنه قولهم: «فلانة لا تردّ يد لامس»، ونظيره {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]. والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعضضِ الجسد جسدَ المرأة، فيكون ذكر سببا ثانياً من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء، وبذلك فسّره الشافعي، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجباً للوضوء، وهو محمل بعيد، إذ لا يكون لمس الجسد موجباً للوضوء وإنَّما الوضوء ممّا يخرج خروجاً معتاداً. فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع. وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، وإنّما لم يستغن عن {لمستم النساء} بقوله آنفاً {ولا جنباً} لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة. والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه. وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية. وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء، إلاّ أنّ مالكاً قال: إذا التذ اللامس أو قَصَد اللذّة انتقض وضوءه، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح، لكن هذا بشرط الالتذاذ، وبه قال جمع من السلف، وأرى مالكاً اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أيّمة السلف، ولا أراه جعله المراد من الآية. وقرأ الجمهور {لامستم} بصيغة المفاعلة؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف {لمستم} بدون ألف. وقوله: {فلم تجدوا ماء} عطف على فعل الشرط، وهو قيد في المسافر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء، أمّا المريض فلا يتقيّد تَيمّمه بعدم وجدان الماء لأنّه يتيمّم مطلقاً، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطّل بدلالة المعنى، ولا يكون المقصود من المريض الزمن، إذ لا يعدم الزمن مناوِلاً يُناوله الماء إلاّ نادرا. وقوله {فتيمموا} جواب الشرط والتيمّم القصد والصعيد وجه الأرض، قال ذو الرمّة يصف خشفا من بقر الوحش نائماً في الشمس لا يكاد يفيق: كأنَّه بالضحى تَرْمِي الصعيدَ به *** دَبَّابَةٌ في عظام الرأس خُرطوم والطيّب: الطاهر الذي لم تلوّثه نجاسة ولا قذر، فيشمل الصعيدُ الترابَ والرملَ والحجارة، وإنّما عبّر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلّبوا التراب أو الرمل ممّا تحت وجه الأرض غلوّا في تحقيق طهارته. وقد شُرع بهذه الآية حكم التيمّم أو قرّر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصحّ، وكان شرع التيمم سنة ستّ في غزوة المريسيع، وسبب شرعه ما في «الصحيح» عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناسسِ وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حَبَسْتتِ رسول الله والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فعاتَبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرّك إلا مَكانُ رسول الله على فَخِذي، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمّم. فقال أسَيْد بنُ الحُضَيْر: ما هي بأوّللِ بركتكم يا آلَ أبي بكر، فوالله ما نَزل بككِ أمْر تكرهينَه إلاّ جعل الله ذلك لككِ وللمسلمين فيه خيراً. قالت: فبعثْنَا البعيرَ الذي كنتُ عليه فأصبنا العِقْد تحته. والتيمّم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعْطِيتُ خمسا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحد قبلي فذكر منها وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً». والتيمّم بدل جعله الشرع عن الطهارة، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمّم عوضاً عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همّي زمنا طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك. وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين، وتقرير حُرمة الصلاة، وترفيع شأنها في نفوسهم، فلم تُترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مُصلّين بدون طهارة تعظيماً لمناجاة الله تعالى، فلذلك شَرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صَعيدَ الأرض التي هي منبع الماء، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعونهم، وما الاستجمار إلاّ ضرب من ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسِر، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عَدِموا الماء في غزوة المريسيع صلَّوْا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم. هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّدِ بنَوعه، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير، مثل عدد الركعات في الصلوات، وكأنَّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار، إلاّ أنّ هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف، وهو ما سبق إلى خاطر عَمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يكفيك من ذلك الوجهُ والكفَّان ". ولأجل هذا أيضاً اختلف السلف في حكم التيمّم، فقال عُمر وابن مسعود: لا يقع التيمّم بدلا إلاّ عن الوضوء دون الغسل، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يَغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر. وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود: روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود: أرأيتَ إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع؟ قال عبدُ اللَّه: لا يُصلّي حتّى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي: كان يكفيك هكذا، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه، قال ابن مسعود: ألم تر عُمَرَ لم يقنَعْ منه بذلك، قال أبو موسى. فدَعْنَا من قول عمّار، كيف تصنع بهذه الآية {وإن كنتم مرضى أو على سفر} فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنَّا لو رخَّصْنا لهم في هذا لأوْشَكَ إذا بَرَد على أحدهم الماءُ أن يدَعَه ويتيمّم، ولا شك أنّ عمر، وابن مسعود، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله: {إلا عابري سبيل} رخصة لمرور المسجد، وجعلا {أو لامستم النساء} مراداً به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي، وخالف جميعُ علماء الأمّة عمرَ وابنَ مسعود في هذا، فقال الجمهور: يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نَزْلَة أو حمّى. وقال الشافعي: لا يتيمّم إلاّ فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة. وقد تيمّم عَمْرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس، «فذكروا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فسأله فقال عمرو: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء: 29] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه. وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه واليدين، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بَلْهَ أعضاء الغسل، إذ ليس المقصود منه تطهيراً حسيَّا، ولا تجديد النشاط، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزئ منه إلاّ مسح سائر الجسد بالصعيد، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء، فقد ثبت في «الصحيح» عن عمّار بن ياسر، قال: كنت في سفر فأجنبت فتمعَّكْت في التَراب (أيْ تمرّغت) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال «يكفيك الوجه والكفان» وقد تقدّم آنفاً. والباء للتأكيد مثل: «وهزّي إليك بجذع النخلة» وقول النابغة يرثي النعمان بن المنذر: لكَ الخيرُ إن وارتْ بك الأرضُ واحدا *** وأصْبَحَ جَدُّ الناس يظْلَعَ عَاثِرا أراد إن وارتْك الأرض مواراة الدفن. والمعنى: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، وقد ذُكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصةٌ على رخصة. وقوله: {إن الله كان عفواً غفوراً} تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض، ولا ترقّبَ وجود الماء عند عدمه، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)} استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} [النساء: 36] فإنّه بعد نذارة المشركين وجّه الإنذار لأهل الكتاب، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمرِ بالطهارة، لأنّ ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره، فهم يحسدون المسلمين عليه، لأنّهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم، وأرادوا إضلال المسلمين عَداء منهم. وجملة {ألم تر} الى {الكتاب} جملة يقصد منها التعجيب، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يودّ المخاطب انتفاءه عنه، ليكون ذلك محرّضا على الإقرار بأنه فعَل، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب، وتقدّم نظيرها في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} في سورة آل عمران (23). وجملة يشترون حالية فهي قيْد لجملة {ألم تر}، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزّلت منزلة المشاهَد المرئيّ، لأنّ شهرة الشيء وتحقّقه تجعله بمنزلة المَرْئيّ. والنصيب تقدّم عند قوله: {وللرجال نصيب} [النساء: 7] في هذه السورةِ، وفي اختياره هنا إلقاء احتماللِ قلّته في نفوس السامعين، وإلاّ لقيل: أوتوا الكتاب، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا {فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم} [النساء: 141]، أي نصيب من الفتح أو من النصر. والمراد بالكتاب التوراة، لأنّ اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة، ولم يكن فيها أحد من النصارى. والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعيْن، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه، هكذا اعتبرَ أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلاّ فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشَار، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازاً على الاختيار، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} في سورة البقرة (16). وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى عِلمهم عليهم. وقوله: {ويريدون أن تضلوا السبيل} أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء، كقوله: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]. فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الدين من قبلكم}. ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل، أي يسعون لأن تضلّوا، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان، وقد تقدّم آنفاً قوله تعالى: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيماً} [النساء: 27]. وجملة {والله أعلم بأعدائكم} معترضة، وهي تعريض؛ فإنّ إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد. وجملة {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] تذييل لتَطْمئنّ نفوس المؤمنين بنصر الله، لأنّ الإخبار عن اليهود بأنّهم يريدون ضلال المسلمين، وأنّهم أعداء للمسلمين، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين، إذ كان اليهود المحاورون للمسلمين ذوي عَدد وعُدد، وبيدهم الأموال، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها: من قينقاع وقريظة والنضِير وخِيْبر، فعداوتهم، وسوء نواياهم، ليسا بالأمر الذي يستهان به؛ فكان قوله: {وكفى بالله ولياً} مناسباً لقوله: {ويريدون أن تضلوا السبيل}، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فاللَّه وليّكم يهديكم ويتولّى أموركم شأن الوليّ مع مولاه، وكان قوله: {وكفى بالله نصيراً} مناسباً لقوله: {بأعدائكم}، أي فاللَّه ينصركم. وفعل (كفى) في قوله: {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} مستعمل في تقوية اتّصاف فاعله بوصف يدلّ عليه التمييز المذكورُ بعده، أي أنّ فاعل (كفى) أجدر من يتّصف بذلك الوصف، ولأجل الدلالة على هذا غلَب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل كفى، وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية، بحيث يحصل إبهام يشوّق السامع إلى معرفة تفصيله، فيأتون باسم يُميّز نوع تلك النسبة ليتمكّن المعنى في ذهن السامع. وقد يجيء فاعل (كفى) غير مجرور بالباء، كقول عبدِ بني الحسحاس: كفَى الشيبُ والأسلام للمرء ناهياً *** وجعل الزجّاج الباء هنا غير زائدة وقال: ضُمّن فعل كفَى معنى اكتف، واستحسنه ابن هشام. وشذّت زيادة الباء في المفعول، كقول كعب بن مالك أو حسّان بن ثابت: فكفَى بنَا فضلاً على مَنْ غَيْرُنا *** حُبَّ النبي محمّد إيّانا وجزم الواحدي في شرح قول المتنبّي: كفى بجسمي نحولا أنّني رجل *** لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني بأنه شذوذ. ولا تزاد الباء في فاعل {كفى} بمعنى أجزأ، ولا التي بمعنى وقّى، فرقا بين استعمال كفى المجازي واستعمالها الحقيقي الذي هو معنى الاكتفاء بذات الشيء نحو: كفاني ولم أطلب قليل من المال...
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} يجوز أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً. و {مِنْ} تبعيضية، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة {يحرّفون} والتقدير: قوم يحرّفون الكلَم. وحَذْفُ المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفاً بجملة أوْ ظرف، وكان بعضَ اسم مجرور بحرف {من}، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ. ومن كلمات العرب المأثورة قولهم: «مِنَّا ظعنَ ومنّا أقام» أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام. ومنه قول ذي الرمّة: فظَلّوا ومنهم دَمْعُهُ غالبٌ له *** وآخرُ يذري دمْعة العين بالهَمْل أي ومنهم فريق، بدليل قوله في العطف وآخر. وقولُ تميم بن مُقْبِل: ومَا الدَّهْر إلاّ تَارتان فمنهمَا *** أمُوتُ وأخْرى أبتغي العَيشَ أكْدَح وقد دلّ ضمير الجمع في قوله {يحرّفون} أنّ هذا صنيع فريق منهم، وقد قيل: إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التَّابوت من اليهود، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحداً ويؤتى بضمير الجماعة، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله عليه السلام: " ما بال أقوام يشترطون " الخ. ويجوز أن يكون {من الذين هاوا} صفة للذين أوتوا نصيباً من الكتاب، وتكون {مِن} بيانيّة أي هم الذين هادوا، فَتكون جملة {يحرّفون} حالاً من قوله: {الذين هادوا}. وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين. والتحريف: الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته، وسيأتي عند قوله تعالى: {يحرقون الكلم عن مواضعه} في سورة المائدة (13)، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل، كما يقال: تنكَّب عن الصراط، وعن الطريق، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة. ويجوز أن يكون التحريف مشقّاً من الحرف وهو الكلمة والكتابة، فيكون مراداً به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتُوافِق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال. والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم. وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم، ناظرٌ إلى غالب أحوالهم، فعلى الاحتمال الأول يَكون استعمال عن} في قوله: {عن مواضعه} مجازاً، ولا مجاوزة ولا مواضِعَ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذٍ نقل وإزالة. وقوله: {ويقولون} عطف على {يحرّفون} ذُكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول عليه الصلاة والسلام: يقولون سمِعْنا دعوتَك وعصيناك، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم، ولذلك لم يَرَوا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له: {واسمع غير مسمع} إظهار للتأدب معه. ومعنى {اسمع غير مُسمع} أنّهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منّا، ويعقّبون ذلك بقولهم: {غير مسمع} يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم: غير مُسمع، أي غير مأمور بأن تسمع، في معنى قول العرب: (افعَلْ غيرَ مَأمُور). وقيل معناه: غير مُسْمَع مَكروهاً، فلعلّ العرب كانوا يقولون: أسْمَعَه بمعنى سَبَّه. والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف. إطلاقاً متعارفاً، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمَح به تركيبها الوضعي، أي أن لا يسمع صوتاً من متكلّم. لأن يصير أصمّ، أو أن لا يُستجاب دعاؤه. والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد: {ولو أنهم قالوا} إلى قوله: {اسمع وانظرنا} فأزال لهم كلمة (غير مسمع). وقصدُهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يُرضوا الرسول والمؤمنين ويُرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول عليه السلام ويرضوا قومهم، فلا يجدوا عليهم حجّة. وقولهم: {وراعنا} أتوا بلفظ ظاهره طلب المُراعاة، أي الرفق، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفقُ بالمرعِيّ، وطلب الخصب له، ودفع العادية عنه. وهم يريدون ب {راعنا} كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العَربية، وقد روي أنّها كلمة {رَاعُونا} وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها، يوهمون أنّهم يعظّمون النبي صلى الله عليه وسلم بضمير الجماعة، ويدلّ لذلك أنّ الله نهى المسلمين عن متابعتهم إيّاهم في ذلك اغتراراً فقال في سورة البقرة (104): {يأيها الذين آمنوا لا تَقولوا رَاعنا وقولوا انظُرْنا} واللَّيُّ أصله الانعطاف والانثناء، ومنه ولا تَلْوُون على أحد}، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين: اللّي، والألسنة، أي أنّهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبهاً لغتين بأن يشبعوا حركات، أو يقصروا مُشْبَعات، أو يفخّموا مرقّقا، أو يرقّقوا مفخما، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبِه صورة كلمة أخرى، فإنّه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا. ويحتمل أن يراد بلفظ (الليّ) مجازُه، وب (الألسنة) مجازه: فالليّ بمعنى تغيير الكلمة، والألسنة مجاز على الكلام، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحّض لمعنى الخير. وانتصب «ليّاً» على المفعول المطلق ل {يقولون}، لأنّ الليّ كيفية من كيفيات القَول. وانتصب {طعناً في الدين} على المفعول لأجله، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر، ولا ضير فيه، ولك أن تجعلهما معاً مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما، وإنما كان قولهم (طعناً في الدين)، لأنّهم أضمروا في كلامهم قصداً خبيثاً فكانوا يقولون لإخوانهم، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان: لو كان محمّد رسولاً لعلم ما أردنا بقولنا، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها. وقوله: {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيراً. وقوله: {سمعنا وأطعنا} يشبه أنّه ممّا جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله «سَمّعٌ وطاعة»، أي شأني سمع وطاعة، وهو ممّا التزم فيه حذف المبتدإ لأنّه جرى مجرى المثل، وسيجيء في سورة النور (51) قولُه تعالى: {إنّما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} وقوله: وأقوم تفضيل مشتقّ من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور، كقولهم: قام الدليلُ على كذا، وقامت حجّة فلان. وإنّما كان أقومَ لأنّه دالّ على معنى لا احتمال فيه، بخلاف قولهم. والاستدراك في قوله: {ولكن لعنهم الله بكفرهم} ناشئ عن قوله: {لكان خيراً لهم}، أي ولكن أثر اللَّعْنَة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشَحُ نفوسهم إلاّ بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيّئ وقول بَذَاءٍ لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك. ومعنى {فلا يؤمنون إلا قليلاً} أنهم لا يؤمنون أبداً فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه، وأطلق القلّة على العدم. وفسّر به قول تَأبّط شرّاً: قليلُ التشكّي للمُهِمّ يصيبُه *** كثيرُ الهَوى شَتَّى النَّوَى والمَسالك قال الجاحظ في «كتاب البيان» عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين «كثيرة العقارب قليلة الأقارب»، يضعون (قليلاً) في موضع (ليس)، كقولهم: فلان قليل الحياء. ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قَلَّ». قلت: ومنه قول العرب: قَلَّ رجل يقولُ ذلك، يريدون أنّه غير موجود. وقال صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى: «أإله مع الله قليلاً ما تذكّرون» «والمعنى نفي التذكير. والقلّة مستعمل في معنى النفي». وإنّما استعملت العرب القلّة عوضاً عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد، فكأنَّ المتكلّم يخشى أن يُتلقّى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي.
|